كثر الحديث أخيراً عن المرأة السعودية ودورها في التحولات التي تشهدها بلادها، معطوفا على الاستشهاد في وسائل الإعلام بنماذج نسائية شابة استطاعت أن تخترق كل الحواجز والمعوقات وتجد لنفسها موقعا تحت الشمس لخدمة بلدها في تخصصات ومراكز ومسؤوليات متنوعة. ومما لا شك فيه أن مخرجات برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي سوف تضيف إليهن أعدادا جديدة من الفتيات الموهوبات. لكن الجل الأعظم من هؤلاء الفتيات وجدن الدروب معبدة أمامهن، بمعنى أنهن لم يعشن الزمن الصعب حينما كانت المرأة كائنا مغيبا لا رأي ولا حضور لها، وكان تعليمها من ضمن المحظورات الاجتماعية، دعك من أن ابتعاثها إلى الخارج كان ضربا من الخيال.
ورغم تلك الظروف القاسية والعوائق الاجتماعية وما كان يُطلق وقتها من فتاوى دينية تحرم تعليم المرأة بدعوى أنه سبيل لإفساد المجتمع وأن مجرد خروجها من منزلها فسوق وانحلال، أو بحجة أن مصير المرأة هو الزواج والإنجاب وبالتالي الجلوس في دارها لخدمة بعلها وأبنائها، فإن عددا قليلا منهن ملكن شجاعة كسر الحواجز والخروج من الشرنقة بدعم ومساندة من أسرهن التي آمنت بمبدأ أن قيمة الإنسان وسر نجاحه في الحياة يكمن في كلمة واحدة هي «العلم». وهكذا فإن مجتمعات شرق وغرب السعودية، بفضل انفتاحها النسبي وتلاقحها ثقافيا مع مجتمعات الهند ومصر والعراق، وإيمان عائلاتها بحق الفتاة في التعليم، شهدت عملية إرسال الفتيات إلى الكتاتيب المختلطة على نطاق ضيق.
من بين هؤلاء الفتيات اللواتي قدر لهن الالتحاق بالتعليم آنذاك، ابنة الحجاز الدكتورة سميرة إبراهيم مصطفى إسلام التي لم تكتف بالدراسة الصباحية في الكتاتيب التقليدية في جدة -التي انتقلت هي ووالداها إليها من مكة المكرمة- ولم تكتف بالدراسة المسائية في منزلها على أيدي مدرسين استعان بهم والدها من مدرسة تحضير البعثات، وإنما سافرت بُـعيد إتمامها لمناهج مدرسة تحضير البعثات إلى الإسكندرية لتدرس الإنجليزية في أرقى مدارسها الخاصة على نفقة والدها، ثم لإكمال دراستها الجامعية في جامعة الإسكندرية في مجال الصيدلة والكيمياء الصيدلية، والتي تتوجت بحصولها على درجة البكالوريوس، ومن ثمّ درجة الماجستير من الجامعة نفسها في تخصص «التحليل الكيميائي الحيوي والتحليل والمعايرات الإحيانية للأدوية».
لكن هل اكتفت سميرة بذلك؟ سيرتها المعروفة تقول لا. فمن كان مثلها في الإقدام والشجاعة والطموح، ومن كان لديها والدان مثل والديها اللذين غرسا في ذهنها منذ طفولتها أن «الإيمان بالحلم هو أساس تغير الشعوب والأمم»، لا يمكن أن ترضى بشهادتي البكالوريوس والماجستير. وعليه سافرت سميرة من مصر إلى بريطانيا، ساعية وراء درجة دكتوراه الفلسفة في علم الأدوية (فارماكولوجي)، والتي حصلت عليها بالفعل في عام 1970 من كلية سانت ماري للطب بجامعة لندن عن بحث في التصنيف الجيني للمجتمع السعودي كان هو الأول من نوعه في المراجع العلمية المتخصصة.
وهكذا دخلت سميرة إسلام تاريخ بلدها باعتبارها أول سيدة سعودية تحصل على هذه الدرجة العلمية الرفيعة، إذ لم تكن هناك أي سعودية قبلها حاصلة على درجة الدكتوراه في أي تخصص، ما جعلها محط الاستغراب والتقدير معا من قبل الرجال المحيطين بها في دوائر صنع القرار. ولم يمض سوى عقد ونيف من الزمن إلا والدكتورة إسلام تنال درجة الأستاذية في علم الأدوية لتصبح مرة أخرى محط الانبهار والتقدير باعتبارها أول السعوديين، رجالا ونساء، لجهة نيل هذه الدرجة الرفيعة في التخصص المذكور.
وقبل مرور أقل من عقدين على هذا الإنجاز، وتحديدا في يناير 2000، كانت سميرة تسجل إنجازا جديدا هو وجودها ضمن أفضل 32 عالمة اخترن من بين 400 عالمة ترشحن من قارات العالم الست للظفر بجائزة اليونيسكو للمرأة والعلوم لعام 2000، لتصبح بذلك أول سيدة من العالمين العربي والإسلامي تحقق هذا النجاح.
ومرة أخرى تعود الدكتورة إسلام لتسجل لنساء بلدها سبقا، وذلك حينما عينت في الفترة ما بين عامي 1996 و1998 أول سيدة وثاني شخصية سعودية تتولى منصبا رسميا في منظمة الصحة العالمية بجنيف تحت مسمى «مستشار إقليمي لبرامج الأدوية الأساسية». وقد أعربت إسلام في أكثر من مناسبة عن شعورها بالسعادة لشغل هذا المنصب الأممي الذي جعلها مسؤولة عن 23 دولة من دول شرق البحر الأبيض المتوسط. غير أنها لم تكترث لهذا المنصب الرفيع ومزاياه، وقدمت استقالتها منه، حينما جاءها نداء الوطن في عام 1998. ففي تلك السنة دعتها المغفورة لها بإذن الله تعالى الملكة عفت الثنيان زوجة الملك فيصل بن عبدالعزيز ورائدة التعليم النظامي للبنات في المملكة العربية السعودية لتأسيس أول كلية جامعية للبنات بالمملكة، فاتخذت قرار الاستقالة والعودة للوطن خلال أقل من 24 ساعة لإنجاز تلك المهمة الوطنية الكبرى التي كانت حلما من أحلام الملكة عفت.
على أنه لو نقبنا في المسيرة العملية للدكتورة إسلام داخل بلادها، من بعد حصولها على أعلى الدرجات الأكاديمية، لوجدنا أمامنا قائمة طويلة من الأعمال الجليلة التي تنم عن عشقها الكبير لوطنها وإيمانها بضرورة أن تساعد بنات جنسها على اقتحام الميادين الصعبة من خلال زرع بذرة الطموح فيهن وتقديم القدوة الصالحة لهن.
فمن خلال توليها بعض المناصب القيادية مثل: ترؤسها وحدة القياس ومراقبة الأدوية في مركز الملك فهد للبحوث الطبية بجامعة الملك عبدالعزيز منذ عام 1981، وعضويتها في هيئة التدريس بالجامعة المذكورة ما بين عامي 1971 و2003، وتأسيسها وعمادتها لأول كلية أهلية جامعية للفتيات بجدة (كلية عفت الأهلية للبنات) في الفترة ما بين 1998 و2000، تمكنت الدكتورة إسلام من استثمار تلك المناصب في النهوض بمسيرة التعليم العالي للجنسين معا، وخدمة المجتمع السعودي بصفة عامة. وآية ذلك أنها أسست في عام 1972 أقسام الكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات في كلية التربية بفرع جامعة الملك عبدالعزيز في مكة المكرمة، وأدخلت بدءا من عام 1973 الدراسة النظامية للطالبات في الجامعات بعد أن كانت الدراسة بالانتساب فقط، وذلك في أعقاب جهود جبارة بذلتها وتتوجت بالموافقة من قبل جامعات الملك سعود بالرياض والملك عبدالعزيز بجدة والملك فيصل بالدمام، ثم قامت في الفترة ما بين عامي 1975 و1978 بتأسيس كلية العلوم للطالبات وعكفت على تطويرها وتزويدها بمرافق وأجهزة تشبه تلك المتوفرة في كليات الطب إلى أن غدتْ كلية مستقلة عن كلية عفت للبنات.
إضافة إلى ما سبق، شاركت الدكتورة إسلام في عام 1975 في تأسيس كلية الطب والعلوم الطبية ومستشفاها الجامعي بجامعة الملك عبدالعزيز وساهمت في اختيار هيئة تدريسها ووضع برامجها الأكاديمية، بل تولت منصب وكيلة لهذه الكلية فصارت أول سعودية تنال هذا المسمى الوظيفي. ومن ناحية أخرى يحسب للدكتورة إسلام أنها كانت وراء إطلاق برنامج بكالوريوس التمريض ضمن كلية الطب والعلوم الطبية والذي أعطى للبلاد جيلا من فنيات العلوم الطبية والتمريض والمختبرات والأشعة. وكان هذا من منطلق إيمانها القوي بأن تخصص التمريض هو من أكثر التخصصات التي تحتاجها بلادها، ففي رأيها أنه يجب إيلاء اهتمام أكبر لمجال التمريض وتدريسه وفق مستويات تعليمية مختلفة مثل المستوى المتوسط والمستوى الثانوي والمستوى الجامعي، وصولا إلى مستوى الدراسات العليا فتكون المخرجات في شكل كبير من الممرضين وممرض أول ومساعد ممرض وهكذا.
كافحت لدخول المرأة في المعامل الطبية
فيما يتعلق بجهود الدكتورة سميرة في خدمة المجتمع، فقد تمثلت في قيامها بإجراء العشرات من الأبحاث العلمية المحكمة حول تأثير الصفات الوراثية والعوامل البيئية في المملكة العربية السعودية على مفعول العديد من الأدوية عند تناولها من قبل مواطنيها ومواطناتها. والجدير بالذكر أن ولع الدكتورة إسلام بالأدوية ومختبراتها وتجاربها دفعها في سنة 1982 إلى الإنفاق من مالها الخاص على تأسيس وحدة لقياس الأدوية قبل أن تمد الجهة الحكومية الأولى المناط بها دعم الأبحاث وتمويل المخترعين والمبتكرين بالسعودية ممثلة في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، يد التعاون إليها.
وتكريما لها على جهودها ومشوارها العلمي والعملي، فقد تم منحها في عام 2009 جائزة مكة المكرمة للتميز العلمي والتقني في حفل رعاه أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، كما أن إثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة بجدة احتفت بها في إحدى أمسياتها في شهر أبريل 2007، بحضور وزير الإعلام السعودي الأسبق الدكتور محمد عبده يماني والأديب الراحل عبدالله عبدالرحمن الجفري.
تدين الدكتورة إسلام بالكثير لوالديها لجهة إكمالها لتحصيلها العلمي المتميز إلى نهاية الشوط في الزمن الصعب، أي الزمن الذي كانت فيها قريناتها بالكاد يـُسمح لهن بتعلم القراءة والكتابة. فحينما تم سؤالها في حوار مع الزميلة (الرياض ــ 19/ 6/ 2016) عن دور أسرتها في ما وصلت إليه قالت ما مفاده إن تربية والديها وحرصهما على زرع طلب العلم في ذهنها مع مبادئ الطاعة والانقياد للتعليمات بصدر رحب هو ما أدى إلى نجاحها في مشوارها الدراسي الطويل من المرحلة الابتدائية حتى مرحلة الدكتوراه. لكنها لم تنس الإشارة إلى أفضال آخرين -من بعد الله ووالديها- مثل الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز طيب الله ثراه فقالت: «عندما كنا ندرس في الإسكندرية ويصادف وجود الملك فيصل -رحمه الله- في مصر كان يستقبلنا ويقول لنا: «أنا أبوكم لا تروحوا لأبوكم إبراهيم ولا لعمكم صالح تعالوا لي أنا». وطالما أتينا على ذكر والديها فإنه لا بد من الإشارة إلى أن والدها هو الشيخ إبراهيم مصطفى إسلام، أحد أبناء مكة المعروفين وأحد أبرز موظفي وزارة المالية في مكة المكرمة في العهد السعودي من الذين عملوا مع وزيري المالية الأسبقين الشيخين عبدالله السليمان الحمدان ومحمد سرور الصبان. أما والدتها فهي السيدة سعدية مصطفى فتح الله التي عرفتْ بحب العلم وغرس بذوره في أولادها وبناتها على حد سواء، وقد انتقلت إلى رحمة الله في يناير 2013.
يقول الدكتور منصور سليمان عضو هيئة التدريس ورئيس قسم الأدوية ووكيل كلية الصيدلية بجامعة الملك عبدالعزيز ومدير مركز الملك فهد للبحوث الطبية في شهادته عن الدكتورة إسلام التي عرفها وعمل معها لسنوات طويلة: «كانت نموذجاً للسيدة الفاضلة والمجتهدة، فدائما كانت تؤمن بالوطن وتؤمن ببنات الوطن، لذلك تركزت جهودها في تطوير إمكانات المرأة السعودية. فهي المرأة السعودية الأولى التي سعت لإنشاء أول كلية طب للبنات، كما سعت لأن تدخل البنات للمرة الأولى إلى المعامل، وهذه في البدايات كانت ممنوعة ومرفوضة ولكن الدكتورة سميرة قاتلت وحاربت حتى وصلنا اليوم إلى أن أصبحت الفتاة تدخل الكليات الصحية والطبية من نجران في أقصى الجنوب إلى رفحاء في أقصى الشمال». وأعرب الدكتور سليمان عن أسفه بخصوص عدم حصول زميلته الدكتورة إسلام على تكريم يليق بما قدمته وأنجزته لوطنها، مشيرا إلى احتمال أن يكون السبب هو شخصيتها الصريحة المجاهدة التي لا تداهن ولا تقبل بأنصاف الحلول. وهذا الشق الأخير قد يكون الدكتور سليمان مصيبا فيه. ذلك أنه سجل عن الدكتورة إسلام في أكثر من مناسبة مقتها الشديد للمجاملات والواسطات والاستسلام للقرارات الاعتباطية غير المدروسة.
«كوري العرب».. ضمن الـ20 امرأة الأكثر نفوذاً في العلوم
وفي شهادة الدكتور محمد عبده يماني المنشورة في موقعه الإلكتروني عن هذه العالمة الجسورة، التي شبهتها إحدى المجلات بالعالمة البولندية «ماري كوري» مكتشفة البولونيوم والراديوم فأطلقت عليها لقب «ماري كوري العرب»، ثم أدرجتها مجلة «مسلم ساينس» البريطانية المتخصصة في العلوم والتكنولوجيا ضمن الـ20 امرأة الأكثر نفوذا في مجال العلوم وتأثيرا في العالم الإسلامي، فقد تضمنت النص التالي: «لقد عملت هذه السيدة معي لسنوات بجد ووعي ومسؤولية وإخلاص عندما كنت مديرا لجامعة الملك عبد العزيز، وكانت تسهم في مسيرة كلية الطب والعلوم الطبية والعلوم عامة. وقد كنت ألاحظ فيها ولعا وعشقا للمسيرة التعليمية، ولكنها كانت لا تنقطع عن البحث، وتحرص على تشجيع الطالبات على البحث العلمي، ثم شاءت إرادة الله أن نكلفها بأعمال في مجال العلوم الطبية في جامعة الملك عبدالعزيز، فكانت نعم المعين، وأشهد أنها من خيرة الذين أدوا الرسالة على خير وجه. وهي سيدة مثقفة واعية وعلى قدر كبير من المسؤولية، وكنت أشعر دائما أن من حق هذه السيدة وأمثالها على المجتمع السعودي أن يكرمها، ففي تاريخنا التعليمي الكثير من السيدات الفاضلات العاملات والرائدات اللاتي هن جديرات بالتكريم، وأن يقدمن كرموز لبنات هذا الوطن ونساء هذا الوطن. والحق أن زهد هذه السيدة في الإعلام، وعزوفها عن الظهور، وانشغالها بالبحث العلمي أسهم في انزوائها، ولكنها ستظل علامة بارزة في مسيرتنا التعليمية، وإذا نسيها الناس فلن ينساها الله سبحانه وتعالى الذي لا يضيع عنده مثقال حبة من خردل، ثم عند الناس الذين عملوا معها، وعرفوا دورها، فقد كانت سيدة ذات عمل طيب وفعل جميل». ثم أضاف الدكتور يماني قائلا: «تحية من الأعماق للرجل الصالح والمواطن المخلص المرحوم بإذن الله الشيخ إبراهيم إسلام، الذي تنبه منذ وقت مبكر لأهمية التعليم وضرورة العلم وإعطائها الفرصة حتى وصلت بفضل الله وتوفيقه إلى ما هي عليه الآن».
تحدثت الدكتورة اسلام في حوار مع مجلة «عربيات» (1/ 5/ 2000) عن أحوال الباحثين في بلادها والعقبات التي تقف في طريق إتمام ابحاثهم، فأوضحت بداية أن توفر وسائل المعرفة الحديثة مثل الحاسوب والإنترنت والبرمجيات هيأ للباحث اليوم ما لم يكن متوفرا بالأمس إلا في الجامعات والمعاهد المرموقة. لكنها استطردت وقالت إن هناك صعوبات تواجه الباحثين فتحول دون استكمالهم لأبحاثهم بالشكل المطلوب، على الرغم من تميزهم ومؤهلاتهم وحماسهم وكثافة أعدادهم، مشيرة بصفة خاصة إلى غياب الدعم المادي الضروري لاستمرار البحث وعدم وجود المساعدين المتقنين لحرفتهم.
وأخيرا، فإن الوصفة التي تعطيها الدكتورة إسلام لبنات جنسها لتحقيق النجاح في مجتمع ظلت فيه المرأة تعاني طويلا من سطوة الرجل، هي وصفة مستمدة من خلاصة تجربتها الشخصية وتتلخص في «الثقة والإصرار والصبر وعدم اليأس والدقة في العمل والإقناع بالأدلة والبراهين».
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين
ورغم تلك الظروف القاسية والعوائق الاجتماعية وما كان يُطلق وقتها من فتاوى دينية تحرم تعليم المرأة بدعوى أنه سبيل لإفساد المجتمع وأن مجرد خروجها من منزلها فسوق وانحلال، أو بحجة أن مصير المرأة هو الزواج والإنجاب وبالتالي الجلوس في دارها لخدمة بعلها وأبنائها، فإن عددا قليلا منهن ملكن شجاعة كسر الحواجز والخروج من الشرنقة بدعم ومساندة من أسرهن التي آمنت بمبدأ أن قيمة الإنسان وسر نجاحه في الحياة يكمن في كلمة واحدة هي «العلم». وهكذا فإن مجتمعات شرق وغرب السعودية، بفضل انفتاحها النسبي وتلاقحها ثقافيا مع مجتمعات الهند ومصر والعراق، وإيمان عائلاتها بحق الفتاة في التعليم، شهدت عملية إرسال الفتيات إلى الكتاتيب المختلطة على نطاق ضيق.
من بين هؤلاء الفتيات اللواتي قدر لهن الالتحاق بالتعليم آنذاك، ابنة الحجاز الدكتورة سميرة إبراهيم مصطفى إسلام التي لم تكتف بالدراسة الصباحية في الكتاتيب التقليدية في جدة -التي انتقلت هي ووالداها إليها من مكة المكرمة- ولم تكتف بالدراسة المسائية في منزلها على أيدي مدرسين استعان بهم والدها من مدرسة تحضير البعثات، وإنما سافرت بُـعيد إتمامها لمناهج مدرسة تحضير البعثات إلى الإسكندرية لتدرس الإنجليزية في أرقى مدارسها الخاصة على نفقة والدها، ثم لإكمال دراستها الجامعية في جامعة الإسكندرية في مجال الصيدلة والكيمياء الصيدلية، والتي تتوجت بحصولها على درجة البكالوريوس، ومن ثمّ درجة الماجستير من الجامعة نفسها في تخصص «التحليل الكيميائي الحيوي والتحليل والمعايرات الإحيانية للأدوية».
لكن هل اكتفت سميرة بذلك؟ سيرتها المعروفة تقول لا. فمن كان مثلها في الإقدام والشجاعة والطموح، ومن كان لديها والدان مثل والديها اللذين غرسا في ذهنها منذ طفولتها أن «الإيمان بالحلم هو أساس تغير الشعوب والأمم»، لا يمكن أن ترضى بشهادتي البكالوريوس والماجستير. وعليه سافرت سميرة من مصر إلى بريطانيا، ساعية وراء درجة دكتوراه الفلسفة في علم الأدوية (فارماكولوجي)، والتي حصلت عليها بالفعل في عام 1970 من كلية سانت ماري للطب بجامعة لندن عن بحث في التصنيف الجيني للمجتمع السعودي كان هو الأول من نوعه في المراجع العلمية المتخصصة.
وهكذا دخلت سميرة إسلام تاريخ بلدها باعتبارها أول سيدة سعودية تحصل على هذه الدرجة العلمية الرفيعة، إذ لم تكن هناك أي سعودية قبلها حاصلة على درجة الدكتوراه في أي تخصص، ما جعلها محط الاستغراب والتقدير معا من قبل الرجال المحيطين بها في دوائر صنع القرار. ولم يمض سوى عقد ونيف من الزمن إلا والدكتورة إسلام تنال درجة الأستاذية في علم الأدوية لتصبح مرة أخرى محط الانبهار والتقدير باعتبارها أول السعوديين، رجالا ونساء، لجهة نيل هذه الدرجة الرفيعة في التخصص المذكور.
وقبل مرور أقل من عقدين على هذا الإنجاز، وتحديدا في يناير 2000، كانت سميرة تسجل إنجازا جديدا هو وجودها ضمن أفضل 32 عالمة اخترن من بين 400 عالمة ترشحن من قارات العالم الست للظفر بجائزة اليونيسكو للمرأة والعلوم لعام 2000، لتصبح بذلك أول سيدة من العالمين العربي والإسلامي تحقق هذا النجاح.
ومرة أخرى تعود الدكتورة إسلام لتسجل لنساء بلدها سبقا، وذلك حينما عينت في الفترة ما بين عامي 1996 و1998 أول سيدة وثاني شخصية سعودية تتولى منصبا رسميا في منظمة الصحة العالمية بجنيف تحت مسمى «مستشار إقليمي لبرامج الأدوية الأساسية». وقد أعربت إسلام في أكثر من مناسبة عن شعورها بالسعادة لشغل هذا المنصب الأممي الذي جعلها مسؤولة عن 23 دولة من دول شرق البحر الأبيض المتوسط. غير أنها لم تكترث لهذا المنصب الرفيع ومزاياه، وقدمت استقالتها منه، حينما جاءها نداء الوطن في عام 1998. ففي تلك السنة دعتها المغفورة لها بإذن الله تعالى الملكة عفت الثنيان زوجة الملك فيصل بن عبدالعزيز ورائدة التعليم النظامي للبنات في المملكة العربية السعودية لتأسيس أول كلية جامعية للبنات بالمملكة، فاتخذت قرار الاستقالة والعودة للوطن خلال أقل من 24 ساعة لإنجاز تلك المهمة الوطنية الكبرى التي كانت حلما من أحلام الملكة عفت.
على أنه لو نقبنا في المسيرة العملية للدكتورة إسلام داخل بلادها، من بعد حصولها على أعلى الدرجات الأكاديمية، لوجدنا أمامنا قائمة طويلة من الأعمال الجليلة التي تنم عن عشقها الكبير لوطنها وإيمانها بضرورة أن تساعد بنات جنسها على اقتحام الميادين الصعبة من خلال زرع بذرة الطموح فيهن وتقديم القدوة الصالحة لهن.
فمن خلال توليها بعض المناصب القيادية مثل: ترؤسها وحدة القياس ومراقبة الأدوية في مركز الملك فهد للبحوث الطبية بجامعة الملك عبدالعزيز منذ عام 1981، وعضويتها في هيئة التدريس بالجامعة المذكورة ما بين عامي 1971 و2003، وتأسيسها وعمادتها لأول كلية أهلية جامعية للفتيات بجدة (كلية عفت الأهلية للبنات) في الفترة ما بين 1998 و2000، تمكنت الدكتورة إسلام من استثمار تلك المناصب في النهوض بمسيرة التعليم العالي للجنسين معا، وخدمة المجتمع السعودي بصفة عامة. وآية ذلك أنها أسست في عام 1972 أقسام الكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات في كلية التربية بفرع جامعة الملك عبدالعزيز في مكة المكرمة، وأدخلت بدءا من عام 1973 الدراسة النظامية للطالبات في الجامعات بعد أن كانت الدراسة بالانتساب فقط، وذلك في أعقاب جهود جبارة بذلتها وتتوجت بالموافقة من قبل جامعات الملك سعود بالرياض والملك عبدالعزيز بجدة والملك فيصل بالدمام، ثم قامت في الفترة ما بين عامي 1975 و1978 بتأسيس كلية العلوم للطالبات وعكفت على تطويرها وتزويدها بمرافق وأجهزة تشبه تلك المتوفرة في كليات الطب إلى أن غدتْ كلية مستقلة عن كلية عفت للبنات.
إضافة إلى ما سبق، شاركت الدكتورة إسلام في عام 1975 في تأسيس كلية الطب والعلوم الطبية ومستشفاها الجامعي بجامعة الملك عبدالعزيز وساهمت في اختيار هيئة تدريسها ووضع برامجها الأكاديمية، بل تولت منصب وكيلة لهذه الكلية فصارت أول سعودية تنال هذا المسمى الوظيفي. ومن ناحية أخرى يحسب للدكتورة إسلام أنها كانت وراء إطلاق برنامج بكالوريوس التمريض ضمن كلية الطب والعلوم الطبية والذي أعطى للبلاد جيلا من فنيات العلوم الطبية والتمريض والمختبرات والأشعة. وكان هذا من منطلق إيمانها القوي بأن تخصص التمريض هو من أكثر التخصصات التي تحتاجها بلادها، ففي رأيها أنه يجب إيلاء اهتمام أكبر لمجال التمريض وتدريسه وفق مستويات تعليمية مختلفة مثل المستوى المتوسط والمستوى الثانوي والمستوى الجامعي، وصولا إلى مستوى الدراسات العليا فتكون المخرجات في شكل كبير من الممرضين وممرض أول ومساعد ممرض وهكذا.
كافحت لدخول المرأة في المعامل الطبية
فيما يتعلق بجهود الدكتورة سميرة في خدمة المجتمع، فقد تمثلت في قيامها بإجراء العشرات من الأبحاث العلمية المحكمة حول تأثير الصفات الوراثية والعوامل البيئية في المملكة العربية السعودية على مفعول العديد من الأدوية عند تناولها من قبل مواطنيها ومواطناتها. والجدير بالذكر أن ولع الدكتورة إسلام بالأدوية ومختبراتها وتجاربها دفعها في سنة 1982 إلى الإنفاق من مالها الخاص على تأسيس وحدة لقياس الأدوية قبل أن تمد الجهة الحكومية الأولى المناط بها دعم الأبحاث وتمويل المخترعين والمبتكرين بالسعودية ممثلة في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، يد التعاون إليها.
وتكريما لها على جهودها ومشوارها العلمي والعملي، فقد تم منحها في عام 2009 جائزة مكة المكرمة للتميز العلمي والتقني في حفل رعاه أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، كما أن إثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة بجدة احتفت بها في إحدى أمسياتها في شهر أبريل 2007، بحضور وزير الإعلام السعودي الأسبق الدكتور محمد عبده يماني والأديب الراحل عبدالله عبدالرحمن الجفري.
تدين الدكتورة إسلام بالكثير لوالديها لجهة إكمالها لتحصيلها العلمي المتميز إلى نهاية الشوط في الزمن الصعب، أي الزمن الذي كانت فيها قريناتها بالكاد يـُسمح لهن بتعلم القراءة والكتابة. فحينما تم سؤالها في حوار مع الزميلة (الرياض ــ 19/ 6/ 2016) عن دور أسرتها في ما وصلت إليه قالت ما مفاده إن تربية والديها وحرصهما على زرع طلب العلم في ذهنها مع مبادئ الطاعة والانقياد للتعليمات بصدر رحب هو ما أدى إلى نجاحها في مشوارها الدراسي الطويل من المرحلة الابتدائية حتى مرحلة الدكتوراه. لكنها لم تنس الإشارة إلى أفضال آخرين -من بعد الله ووالديها- مثل الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز طيب الله ثراه فقالت: «عندما كنا ندرس في الإسكندرية ويصادف وجود الملك فيصل -رحمه الله- في مصر كان يستقبلنا ويقول لنا: «أنا أبوكم لا تروحوا لأبوكم إبراهيم ولا لعمكم صالح تعالوا لي أنا». وطالما أتينا على ذكر والديها فإنه لا بد من الإشارة إلى أن والدها هو الشيخ إبراهيم مصطفى إسلام، أحد أبناء مكة المعروفين وأحد أبرز موظفي وزارة المالية في مكة المكرمة في العهد السعودي من الذين عملوا مع وزيري المالية الأسبقين الشيخين عبدالله السليمان الحمدان ومحمد سرور الصبان. أما والدتها فهي السيدة سعدية مصطفى فتح الله التي عرفتْ بحب العلم وغرس بذوره في أولادها وبناتها على حد سواء، وقد انتقلت إلى رحمة الله في يناير 2013.
يقول الدكتور منصور سليمان عضو هيئة التدريس ورئيس قسم الأدوية ووكيل كلية الصيدلية بجامعة الملك عبدالعزيز ومدير مركز الملك فهد للبحوث الطبية في شهادته عن الدكتورة إسلام التي عرفها وعمل معها لسنوات طويلة: «كانت نموذجاً للسيدة الفاضلة والمجتهدة، فدائما كانت تؤمن بالوطن وتؤمن ببنات الوطن، لذلك تركزت جهودها في تطوير إمكانات المرأة السعودية. فهي المرأة السعودية الأولى التي سعت لإنشاء أول كلية طب للبنات، كما سعت لأن تدخل البنات للمرة الأولى إلى المعامل، وهذه في البدايات كانت ممنوعة ومرفوضة ولكن الدكتورة سميرة قاتلت وحاربت حتى وصلنا اليوم إلى أن أصبحت الفتاة تدخل الكليات الصحية والطبية من نجران في أقصى الجنوب إلى رفحاء في أقصى الشمال». وأعرب الدكتور سليمان عن أسفه بخصوص عدم حصول زميلته الدكتورة إسلام على تكريم يليق بما قدمته وأنجزته لوطنها، مشيرا إلى احتمال أن يكون السبب هو شخصيتها الصريحة المجاهدة التي لا تداهن ولا تقبل بأنصاف الحلول. وهذا الشق الأخير قد يكون الدكتور سليمان مصيبا فيه. ذلك أنه سجل عن الدكتورة إسلام في أكثر من مناسبة مقتها الشديد للمجاملات والواسطات والاستسلام للقرارات الاعتباطية غير المدروسة.
«كوري العرب».. ضمن الـ20 امرأة الأكثر نفوذاً في العلوم
وفي شهادة الدكتور محمد عبده يماني المنشورة في موقعه الإلكتروني عن هذه العالمة الجسورة، التي شبهتها إحدى المجلات بالعالمة البولندية «ماري كوري» مكتشفة البولونيوم والراديوم فأطلقت عليها لقب «ماري كوري العرب»، ثم أدرجتها مجلة «مسلم ساينس» البريطانية المتخصصة في العلوم والتكنولوجيا ضمن الـ20 امرأة الأكثر نفوذا في مجال العلوم وتأثيرا في العالم الإسلامي، فقد تضمنت النص التالي: «لقد عملت هذه السيدة معي لسنوات بجد ووعي ومسؤولية وإخلاص عندما كنت مديرا لجامعة الملك عبد العزيز، وكانت تسهم في مسيرة كلية الطب والعلوم الطبية والعلوم عامة. وقد كنت ألاحظ فيها ولعا وعشقا للمسيرة التعليمية، ولكنها كانت لا تنقطع عن البحث، وتحرص على تشجيع الطالبات على البحث العلمي، ثم شاءت إرادة الله أن نكلفها بأعمال في مجال العلوم الطبية في جامعة الملك عبدالعزيز، فكانت نعم المعين، وأشهد أنها من خيرة الذين أدوا الرسالة على خير وجه. وهي سيدة مثقفة واعية وعلى قدر كبير من المسؤولية، وكنت أشعر دائما أن من حق هذه السيدة وأمثالها على المجتمع السعودي أن يكرمها، ففي تاريخنا التعليمي الكثير من السيدات الفاضلات العاملات والرائدات اللاتي هن جديرات بالتكريم، وأن يقدمن كرموز لبنات هذا الوطن ونساء هذا الوطن. والحق أن زهد هذه السيدة في الإعلام، وعزوفها عن الظهور، وانشغالها بالبحث العلمي أسهم في انزوائها، ولكنها ستظل علامة بارزة في مسيرتنا التعليمية، وإذا نسيها الناس فلن ينساها الله سبحانه وتعالى الذي لا يضيع عنده مثقال حبة من خردل، ثم عند الناس الذين عملوا معها، وعرفوا دورها، فقد كانت سيدة ذات عمل طيب وفعل جميل». ثم أضاف الدكتور يماني قائلا: «تحية من الأعماق للرجل الصالح والمواطن المخلص المرحوم بإذن الله الشيخ إبراهيم إسلام، الذي تنبه منذ وقت مبكر لأهمية التعليم وضرورة العلم وإعطائها الفرصة حتى وصلت بفضل الله وتوفيقه إلى ما هي عليه الآن».
تحدثت الدكتورة اسلام في حوار مع مجلة «عربيات» (1/ 5/ 2000) عن أحوال الباحثين في بلادها والعقبات التي تقف في طريق إتمام ابحاثهم، فأوضحت بداية أن توفر وسائل المعرفة الحديثة مثل الحاسوب والإنترنت والبرمجيات هيأ للباحث اليوم ما لم يكن متوفرا بالأمس إلا في الجامعات والمعاهد المرموقة. لكنها استطردت وقالت إن هناك صعوبات تواجه الباحثين فتحول دون استكمالهم لأبحاثهم بالشكل المطلوب، على الرغم من تميزهم ومؤهلاتهم وحماسهم وكثافة أعدادهم، مشيرة بصفة خاصة إلى غياب الدعم المادي الضروري لاستمرار البحث وعدم وجود المساعدين المتقنين لحرفتهم.
وأخيرا، فإن الوصفة التي تعطيها الدكتورة إسلام لبنات جنسها لتحقيق النجاح في مجتمع ظلت فيه المرأة تعاني طويلا من سطوة الرجل، هي وصفة مستمدة من خلاصة تجربتها الشخصية وتتلخص في «الثقة والإصرار والصبر وعدم اليأس والدقة في العمل والإقناع بالأدلة والبراهين».
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين